حوكمة الشركات العائلية في السعودية: بين تحديات الاستدامة ومتطلبات “رؤية 2030”

بقلم المستشار / خالد السيد
تُمثل الشركات العائلية العمود الفقري للاقتصاد السعودي، فهي ليست مجرد كيانات تجارية، بل هي إرث يمتد لأجيال، وقصص نجاح كُتبت بعرق المؤسسين وطموح الأبناء. ومع مساهمتها الكبيرة في الناتج المحلي الإجمالي وتوفيرها لملايين الوظائف، تقف هذه الشركات اليوم على أعتاب مرحلة مفصلية تتطلب منها الانتقال من الإدارة القائمة على العاطفة والتقاليد إلى منظومة مؤسسية راسخة تضمن لها البقاء والنمو في خضم التحولات الاقتصادية الكبرى التي تشهدها المملكة. هنا، يبرز مفهوم “حوكمة الشركات” كطوق نجاة وضرورة استراتيجية، لا مجرد ترفٍ إداري. لطالما تميزت الشركات العائلية بقدرتها على اتخاذ قرارات سريعة ومرنة، وبقيم الولاء والانتماء التي تسود بيئة العمل. لكن هذه المزايا قد تتحول إلى تحديات مع نمو الشركة وتوالي الأجيال. فالخلافات العائلية، وعدم وضوح الرؤية، وغياب آليات اتخاذ القرار المؤسسية، والتردد في فصل الملكية عن الإدارة، كلها عوامل قد تؤدي إلى تآكل الإرث الذي بناه الآباء المؤسسون. ويُعد تحدي “التعاقب” هو الأخطر، حيث تشير الدراسات إلى أن نسبة ضئيلة فقط من الشركات العائلية تنجح في الاستمرار إلى الجيل الثالث بنفس القوة والكفاءة. إن تطبيق مبادئ الحوكمة الرشيدة لم يعد خياراً، بل هو حجر الزاوية لضمان استمرارية هذه الكيانات. وتبدأ رحلة الحوكمة بوضع “ميثاق عائلي” أو “دستور للعائلة” يُعد بمثابة وثيقة تنظم العلاقة بين أفراد العائلة والشركة. يحدد هذا الميثاق رؤية العائلة وقيمها، وشروط توظيف الأبناء، وسياسات توزيع الأرباح، وآليات حل النزاعات، والأهم من ذلك، معايير اختيار القيادات المستقبلية بناءً على الكفاءة والجدارة، لا القرابة فحسب. على صعيد آخر، يأتي تشكيل “مجلس إدارة” فعال يضم أعضاءً مستقلين من خارج العائلة كخطوة جوهرية. هؤلاء الأعضاء، بخبراتهم ورؤيتهم المحايدة، يضيفون منظوراً جديداً ويساهمون في اتخاذ قرارات استراتيجية موضوعية بعيداً عن أي اعتبارات عائلية. كما أن وجود لجان متخصصة منبثقة عن المجلس، مثل لجنة المراجعة ولجنة الترشيحات والمكافآت، يعزز من الشفافية والمساءلة ويرسي قواعد العمل المؤسسي السليم. تتزامن هذه الحاجة الملحة للحوكمة مع أهداف “رؤية 2030” الطموحة، التي تسعى إلى بناء اقتصاد متنوع ومستدام. فالشركات العائلية المحوكمة تكون أكثر قدرة على جذب الاستثمارات الخارجية، والتوسع في أسواق جديدة، وحتى طرح أسهمها للاكتتاب العام في السوق المالية، مما يعزز من عمق السوق ويوفر فرصاً استثمارية واعدة. وقد أدركت الجهات التنظيمية والتشريعية في المملكة، كوزارة التجارة وهيئة السوق المالية، أهمية هذا التحول، حيث أطلقت العديد من المبادرات واللوائح الاسترشادية لدعم الشركات العائلية في رحلتها نحو تطبيق أفضل ممارسات الحوكمة. في الختام، إن حوكمة الشركات العائلية هي رحلة تحول تتطلب شجاعةً من الجيل الحالي لترسيخ قواعد تضمن استمرار إرثهم، ورؤيةً واضحةً للمستقبل. إنها عملية بناء جسر متين تعبر عليه هذه الكيانات من ضفة التقاليد إلى ضفة المؤسسية والاحترافية، لتظل جزءاً أصيلاً ومحركاً فاعلاً في قصة النجاح الكبرى للاقتصاد السعودي.